مجتمع النهر في طرابلس الشام

مجتمع النهر في طرابلس لبنان


إن نظرة متفحصة لخريطة طرابلس القديمة بمبانيها ودورها وأسواقها وجوامعها وخاناتها وحاراتها ومحلاتها وبواباتها، ترينا بوضوح أن القسم الأعظم من هذه المباني قد أنشىء على ضفاف نهر "أبو علي".
ويمكن أن نحدد البوابات القائمة على ضفاف النهر أو المتصلة به مباشرة خلال القرن السابع عشر كما يلي:
- بوابة الحديد عليها محلتا باب الحديد والرمانة.
- بوابة عقبة الحمراوي عليها محلتا بين الجسرين وقبة النصر.
- بوابة الدباغة عليها محلتا اليهود والتربيعة.
- بوابة القلعة على النهر عليها محلتا القواسير والمزابل.
- بوابة الطواحين عليها اليعقوبية والناعورا.
- بوابة التبانة عليها محلة التبانة ومحلة ساحة عميرة.
وتشكل هذه البوابات الست والمحلات الاثنتا عشرة من أصل 11 بوابة و24 محلة ما يمكن تسميته «بمجتمع النهر في طرابلس»


يجري بشكل شبه مستقيم لمسافة 820م ومتوسط عرض 17.5م حتى جسر اللحامين حيث يتغير مجراه في حركة مفصلية تداخلت بها يد الإنسان إلى حد كبير.
من المولوية إلى جسر اللحامين، تجري الاستفادة من مياه النهر في إدارة ستة طواحين وتنتشر على جانبيه أهم أحياء النواة المدينية الطرابلسية: السويقة والجسرين من الجهة اليمنى وباب الحديد من الجهة اليسرى، وتتصل الضفتان اليسرى واليمنى بواسطة جسر البرطاسية أو جسر السويقة.
على الجانبين، بنيت المساكن والدور السكنية في حدود مجرى النهر. والطابق الأرضي منها، وهو على شكل قناطر غالباً، إما ان يكون بناء سكنياً أو مخزناً ومستودعاً. وكان ينزل إلى مجرى النهر بواسطة سلالم من عدة درجات تكون عادة موزعة بين البيوت والمباني أو عن طريق منحدرات ترابية.
ومن أهم معالم محلتي السويقة، باب الحديد، عدا البيوت: البيمارستان، حمام سندمر المعروف بحمام الحاجب، خان المنزل، البطريركية، قيسارية الافرنج، مسجد البرطاسي وست مدارس دينية.
أما الأسواق المجاورة فأهمها سوق سندمر في السويقة بجوار حمام الحاجب واشتهر مملوكياً وعثمانياً بأنه سوق السلاح. وعلى الضفة اليسرى، سوق البازركان وسوق النحاسين وسوق حراج وهو من الأبنية الصليبية القديمة، وعرف في عصر المماليك بالقيسارية وهو على نظام الخانات مؤلف من طابقين: الأسفل لعرض البضائع والأعلى لحجرات النوم وهو في نهاية طريق السوسية.
عند جسر اللحامين، ينقسم النهر بفعل حاجز باطوني إلى نهرين: أعلى وأسفل، ويساعد على هذا الانقسام كون جسر اللحامين بني على قنطرتين تسببان انقسام المياه ويتكرس ذلك بالحاجز/ السد الباطوني المشيد وسط مجرى النهر بشكل منحنٍ طولاني لمسافة 80 متراً وبارتفاع حوالي المترين. وعندما تملأ المياه عمق النهر الأعلى تعود فتنحدر عن الحائط على شكل شلالات مائية نحو النهر الأسفل. وأقيم قبل نهاية السد سكر واسع للمياه يسمح عبر التحكم به بزيادة كمية المياه في النهر الأعلى أو الأسفل.
ويشكل النهران معاً حوضاً مائياً واسعاً يبلغ عرضه حوالي 39 متراً والنهر الأسفل يلف هنا بشكل نصف دائري وبعرض 18 متراً عند جامع التوبة في محلة الدباغة ويتابع مسيره نحو الزاهرية فالتبانة. ويبلغ قطر الالتفاف 500م وتتفرع عنه ساقية بعرض مترين تعرف بساقية الدباغين وتعود لتلتقي بالمجرى الرئيسي.
أما النهر الأعلى فيتفرع إلى ثلاثة جداول: الأول بعرض أربعة أمتار وهو يدير طاحونة المسلخ ثم يتجه نحو البداوي ليروى بساتينها.
والجدول الثاني بنفس العرض وعليه أقيمت ساحة المسلخ البلدي حيث يعود هذا الجدول ليلتقي بالنهر الأسفل في التبانة، وتعرف نقطة التقائهما بملتقى النهرين حيث تتوحد المياه من جديد لتسير نحو مصبها المعروف ببرج رأس النهر عند شاطىء البحر غربي طرابلس.
أما الجدول الثالث فيتفرع أصلاً من جدول المسلخ ويخترق حيز الالتفاف الدائري ليصب في النهر الأسفل بعد أن يروى مساحة واسعة من البساتين. إن هذه الشبكة من تقسيم المياه (قناطر جسر اللحامين والحاجز/ السد الباطوني) ومن التفريع (الجداول والسواقي) هي من صنع الإنسان ولوظائف واستخدامات مختلفة منها إدارة الطواحين وري البساتين وفصل جدول خاص بالمسلخ وساقية خاصة بالدباغة وجدول ثالث لري بساتين الزاهرية وذلك عبر التحكم بتقسيم وتوزيع المياه وفق أعراف وتقاليد معينة مما يشكل هندسة مائية منتظمة ومبتكرة.

البيت النهري
البيت النهري - تجاوزاً - هو البيت القائم مباشرة على ضفتي النهر وعلى طول مجراه من المولوية حتى الزاهرية.
وتبلغ كثافة المنازل النهرية أوجها في حارات السويقة والجسرين إلى الجهة اليمنى وباب الحديد والسوسية إلى الجهة اليسرى.
ولا يمكن الحديث عن مزايا عمرانية ومعمارية خاصة بالبيت النهري ومتميزة عن سائر مساكن طرابلس القديمة إلاّ بأن له على الأغلب مدخلين: الأول لجهة السوق وهو دوماً المدخل أو البوابة الرئيسية، والثاني مدخل فرعي يؤدي إلى مجرى النهر. وواجهة المنزل المعاكسة لجهة النهر تشكل أحد جوانب السوق المجاور للنهر، في حين تتداخل واجهة المنزل المطلة على النهر مع حيز النهر نفسه، وهو حيز نسائي إلى حد كبير خلال النهار.
وينبغي التأكيد على ان المنزل النهري لم يستخدم مياه النهر مباشرة للشرب بل كان له مصادر مياهه المشتركة مع سائر المدينة القديمة (نظام الشاهيات)، بل استفاد من مياه النهر في ري حديقته ونباتاته المنزلية. إن ضفة النهر تتحول إلى حديقة ملحقة بالبيت النهري خلال الصيف عندما تنحسر المياه، وكابوساً مزعجاً خلال الشتاء. وهناك خوف دائم وتحذير مستمر للأولاد من اللعب في النهر خلال هذا الفصل وأول الربيع، رغم وجود تقليد عند أصحاب المنزل بتغطيس اطفالهم في النهر من شبابيك المنزل أو شرفاته.
ولكل بيت وسائل التقاط الأغراض العائمة على صفحة النهر وذلك بواسطة قصبة طويلة أو قصبة تنتهي بسلة أو كيلة. كما ان كل منزل معرض لضياع بعض أغراضه في النهر خصوصاً المنشورة منها أو الموضوعة على الشبابيك والشرفات النهرية. وللنهر أصواته المسموعة في المنزل النهري، والمرهوبة شتاء حيث هدير النهر يطغى على كل ما سواه، والخفيفة صيفاً حيث تضعف المياه. وتقوى الأصوات وتشتد عند وجود المساقط والسدود وعند فتح السواقط وخاصة في محلات السوسية والدباغة والمسلخ.



فيضانات نهر «أبو علي»
من المعروف ان مدينة طرابلس لم تعرف مؤرخاً خاصاً بها وخصوصاً في الفترة السابقة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، فهناك إنعدام للتواريخ الخاصة بمدينة طرابلس والأحوال التي طرأت عليها يوماً بيوم على غرار «تاريخ حوادث الشام» لميخائيل الدمشقي أو اليوميات على غرار «عجائب الآثار» للجبرتي. وأخبار فيضانات النهر في طرابلس ورد ذكر بعضها بشكل غير مباشر كفيضان 745 هـ في معرض ترجمة الصفدي لابن البارنباري، صاحب ديوان الإنشاء وكاتب السر في طرابلس أو من خلال وقفية تجديد جامع الدباغين في طرابلس أو «سيل عظيم» كان عاماً في بلاد الشام ومنها طرابلس. وهذه هي أهم الفياضانات التي أتت على ذكرها المصادر التاريخية:
1- فيضان 1344م/745هـ:
أتى على ذكره الصفدي في ترجمة البارنباري:
«وفي سنة 745 كان في الشتا نايماً هو وأولاده فجاء سيل عظيم، وكان للسيل ضجة من الناس وضوضاء، فقام من فراشه ليعلم ما الخبر، وعاد فلم يجد لا داراً ولا سكاناً، وراح البيت وولداه، وأحدهما موقع، والآخر ناظر الجيش، وجميع ما في البيت إلى البحر، وانتبه الناس لهذه المصيبة العظمى، وركب النايب وتوجهوا إلى البحر إلى ان طلع الضوء، وقذف الموج ولديه وهما ميتان فأخذوهما، وعمر لهما تربة عظيمة هناك، وصدعت واقعته قلوب الناس في الشام ومصر، وأما هو فإنه داخله هلع عظيم واختلط عقله وبعث إلى مصر يسأل الإعفاء والإقالة».
2- طوفان 1407م/810هـ:
«ذكر ابن حجر انه في شعبان سنة 810 هـ، حدث السيل العظيم بطرابلس حتى قيل أن أهلها ما رأوا مثله، فهدم أبنية كثيرة وهلك بسببه خلق كثير».
3- طوفان 1503م/909 هـ:
«وفي هذه السنة جاء سيل عظيم ومطر عم الأقطار(....) وكذلك نهر طرابلس أخرب المساكن والحوانيت وغير ذلك».
4- طوفان 1612م /1020هـ
«وفي سنة أسيب (أي 1612م) جاء سيل عظيم حتى ان نهر طرابلوس أخذ بيوت وطواحين وجسوره وأهلك خلقاً كثير».
وعلى جدار جامع التوبة، كتابة تاريخية تفيد بتجديد «هذا الجامع الشريف لوجه الله الكريم بعد هدم جداره ومنبره ومحرابه وسبيل مائه من الفيضة الكبرى في سادس عشر ذي القعدة سنة عشرين بعد الألف» «وهذه الفيضة نسفت كثيراً من الأبنية».
5- طوفان 1749م /1162هـ:
«فاض نهر طرابلس في ثلاثة أيام خلت من شهر ربيع الأول وهو شباط الرومي سنة 1162 هـ. وكان فيضانه مع الفجر صبيحة نهار الجمعة، وقتل خلقاً كثيرا، وخرب بيوتاً كثيرة وعلا فوق الجسرين مقدار اثني عشر ذراعاً حتى غطى جميع الطواحين ما بقي باين منهم أثر، ولو ما أدرك العالم لطف من الباري جل وعلا وإلا كان أهلكهم بفيضه».
6- طوفان 1842م/1258 هـ:
ورد ذكره في نص كتبه أحد شهود العيان بالعامية ونشرت نصه مجلة «أوراق لبنانية»:
«يوم الاثنين في 6 رمضان سنة 58 الواقع في 28 أيلول 842 الساعة تسعة من النهار فاض النهر أبو علي، وعلى (علا) الما (ء) فوق الجسر ووصل لباب الحديد وعدم كامل السويقة والمسلخ وسوق الحراج والملاحة، ووصل لمحل حارة النصارة، بزخم قوي جداً، وعلى (علا) في الأسواق فوق الدكاكين حتى لا عاد يظهر في محلات السقف. وبعض محلات على النهر هدمها بأصحابها وكامل ما بها. كذلك جاب (جلب) أبقار وخيل وحمير وجمال كثيرة ودلب وصور كل شجرة قد حارة كبيرة. وغرق رجال ونسا وأولاد بالأسواق وماتوا. وحكم (تقريباً) ثلث البلد خربت. راح كامل ما هو موجود بمحلات المتقاربة للما (ء) من أثاث ونحاس ولحف ومونة وسيغة (مصاغ) ودراهم شي يبلغ ثلاثة آلاف كيس وهذا من داخل البلد.. (؟؟). والذي خارج البلد من بساتين وجنينات وطواحين شيء ينوف عن ألفي كيس وأخذ من... نسا ورجال وأولاد. ومات حكم ماية حرمة (إمرأة) من الرعب حيث هذا الأمر غريب بأيامنا. وعلى (علا) فوق الجسر الما (ء) لقامه. وكل ذلك حكم نصف ساعة (...)».
7- طوفان 1955/1375هـ:
في «تاريخ آثار ومساجد طرابلس» كتب د. عمر تدمري ما يلي: «في نهاية سنة 1955 أصيبت طرابلس بكارثة الفيضان في مساء 17 كانون الأول ذهب فيه عشرات القتلى من الرجال والنساء والأطفال. فقد انهمر المطر بشدة وقت المغرب وتضخمت كمية المياه المتدفقة في النهر بفعل الأمطار الغزيرة، وجرفت مياه النهر معها وهي في إنحدارها من الجبال الأشجار والأحجار، وارتطمت الأشجار ذات الجذوع الضخمة بالقناطر القديمة المعروفة بـ «قناطر البرنس» فاحتقنت المياه عندها بعد ان سدت المنافذ بالأشجار والأوساخ، وإزاء ضغط المياه الشديد تحطمت بعض القناطر وتدفقت المياه بقوة لتجرف ما يصادفها من أشجار وبيوت خشبية حيث ارتطمت بجسر السويقة القديم، واحتقنت المياه عنده من جديد وعلا منسوب المياه فطافت على البيوت الواقعة على ضفتي النهر، ودخلت تكية المولوية وغمرت الطواحين المنتشرة على الجانبين ودخلت حرم الجامع البرطاسي والمحلات القريبة منه، والبيمارستان القائم أمامه، ودخلت المدرسة البتركية وقناطر (باكية) غانم، حتى ارتفعت إلى محلة باب الحديد وهدمت قسماً من جسر السويقة، كما هدمت الجسر الجديد (اللحامة) ودخلت المياه جامع التوبة وغمرته، كما غمرت مسجد الدباغين والمدارس القريبة من المسلخ (...) وجميع البيوت والمحلات الواقعة على جانبي النهر وسارت المياه المتدفقة بين دروب المدينة القديمة وأسواقها حتى وصلت حارة النصارى ومحلة الزاهرية، وجرفت معها كثيراً من جثث القتلى وأثاث البيوت من اسرة وفرش وادوات وأوانٍ، وحملت الحاجيات من المحلات، ودب الذعر في نفوس الأهالي، وارتفع الصراخ ونداءات الإستغاثة من الذين حاصرتهم ورفعتهم إلى اسقف بيوتهم ومحلاتهم، وارتطمت الجثث بالأشجار التي بقيت منتصبة بظاهر طرابلس شمالي النهر قريباً من البحر، وعلقت بها ومنها ما تقاذفته أمواج البحر من الأثاث، وتحولت مياه البحر إلى اللون الأحمر الداكن من الطين الذي جرفه النهر، وضربت أمواج البحر الجثث إلى جون عكار ومنها ما وصل إلى طرطوس».

النهر: من الكارثة إلى الإلغاء
شهر كانون الأول من عام 1955 هو تاريخ مشؤوم بالنسبة لطرابلس ففي إحدى لياليه العاصفة (وتحديداً في ليلة 17 منه) حدث ما عُرف بطوفان النهر.. فبعد سيول ماطرة، اجتاحت المياه المتدفقة الجسور والأبنية والأسواق والحارات فهدمت وأغرقت وكانت النتيجة أكثر من مئة وعشرين ضحية وتهدم 60 منزلاً و500 محل.
ولقد دخل هذا التاريخ الذاكرة بقوة وعُرف هذا العام وما سبقه وتلاه «بأعوام الكوارث الثلاث» فعام 1954، حدث حريق المشاعل الشهير في بيروت وعام 1956 حدثت الهزة الأرضية، لكن الناس عموماً تجاوزوا مأساة النهر وبنوا وأصلحوا وأعادوا بعضاً من سيرة حياتهم ما قبل الطوفان مع إرادة عنيدة للعيش والبقاء والاستمرار.
في مطلع الستينات، وعقب أحداث 1958 واثر قيام الدولة الشهابية وانشائها لإدارات جديدة لتنفيذ ما عُرف حينه «بالمشاريع الكبرى»؟ أبصر النور أحد أغرب المشاريع المائية في لبنان تحت اسم «مشروع نهر أبو علي» ويقضي بشق طريق عريض وعلى طول مجرى النهر داخل المدينة (3كلم) وبلغ عرض هذه الطرق المستحدثة حوالي الستين متر مقسمة بالتساوي بين عرض مجرى النهر وضفتيه.
وغرابة مشروع النهر تكمن في انه المشروع المائي الوحيد الذي يتلافى طوفان المياه بتوسيع مجرى النهر عند مصبه في حين ان المطلوب كان إنشاء سد لتجميع المياه عند نقطة دخول النهر إلى المدينة والاكتفاء بتعميق المجرى وليس بتوسيعه عرضياً.
ويشير الدكتور علي فاعور إلى مشروع للمهندس الفرد نقاش وُضع أثناء دراسة إمكانات تنظيم مياه لبنان سنة 1950 (أي قبل الطوفان الشهير بخمسة أعوام) وفيه «تخطيط لبناء خزان ضخم لتجميع المياه في الحوض الأسفل لنهر أبو علي وذلك لمواجهة أخطار الفيضان من ناحية ثم لاستيعاب المياه والاستفادة منها في ري المناطق العالية الممتدة على ضفتي النهر حيث توجد هضاب الكورة والزاوية..».
السد الذي خططت له دولة الاستقلال، أغفلته دولة التحديث الشهابي الآتية من أحداث 1958. والمشروع بالشكل الذي تم، لم يبصر النور اثر حادثة الطوفان بحد ذاتها عام 1955، وإنما بدأت فكرته عقب أحداث «الثورة» التي تمثلت في طرابلس بعصيان مسلح في «الأسواق القديمة» بحيث استعصت على الدولة ووصفت دوماً بأنها بؤرة للعصيان والتمرد والقلاقل.. وهذا المشروع الذي نفذته شركة يوغوسلافية عام 1966 بالتعاون مع مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى، اقترن مع مشاريع مماثلة لشق طرق واسعة في أحياء المدينة القديمة، وذلك بتفتيت هذه الأحياء وعزلها عن بعضها البعض وإزالة أقسام كاملة منها.
لن نتحدث عن نتائج مشروع النهر على المستويات العمرانية وسلسلة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي نتجت عن مشروع النهر وتوابعه، لكن من المهم الإشارة إلى انهيار وحدة المدينة العمرانية ومعها علاقات التماسك الاجتماعي ووحدة المكان العميقة.
وإلى جانب ذلك، اندثرت الأسواق التقليدية ومعها اقتصاد بمجمله يقوم على الحرفية. وبقسوة متعمدة أو متجاهلة، تُرك مئات الحرفيين (مصير سوق النحاسين مثلاً.. لم يبق من عشرات الحرفيين إلا عائلة واحدة استمرت بعملها في هذه الحرفة هي عائلة الطرطوسي. واختفى عشرات الدباغين و لم يبق منهم إلا ثلاثة في طرابلس في حين توسعت هذه الحرفة في مناطق أخرى: مشغرة في البقاع الغربي وبرج حمود والدورة في العاصمة) لمصيرهم البائس دون أي بديل مهني. فالمناطق السكنية الجديدة المقامة على عجل، لم يكن بوسعها استقبال مهن كانت حية فقط بحكم الاستمرار في إطارها المكاني التقليدي.. كما ان دولة التحديث لم تأخذ بعين الاعتبار مصير هؤلاء الحرفيين.
إن جيلاً بكامله قد أحيل إلى تقاعده مبكراً.. وبانتظار ان يشب جيل جديد، عانى ذلك الجيل المتقاعد قسراً حالات الانتظار الطويل والأمل اليائس والحلم المخادع.. لقد أزيل المشهد القديم من ذاكرتهم حقاً، لكنهم ظلوا يحنون إلى ما فقدوه.. وتراهم، أولئك المتقاعدين أو من بقي حياً منهم، متناثرين كأوراق الخريف.. في حديقة طرابلس العامة أو في المقاهي الشعبية الرثة.. ذاكرتهم حية وشعارهم التليد: «الماضي كان أحسن»...


المصدر: دراسة للصحافي والباحث طلال منجد - التمدن (بتصرف)

للمزيد عن مدينة طرابلس: 33shamy.blogspot.com/search/label/Tripoli


بيوت طرابلس حول نهر ابو علي