حقيقة ما رواه ابن بطوطة عن ابن تيمية

الامام ابن تيمية رحمه الله

أفرد الرحالة المغربي ابن بطوطة (ت 776هـ) قسماً من كتابه: تحفة النظار، لمشاهداته بمدينة دمشق (سنة: 726هـ)، منها ما رواه عن شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية (ت 728هـ) فكان مما قاله عنه:
«وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينـزل إلى سماء الدنيا كنـزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره بعد ذلك؛ فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك بذلك وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها: أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف لا يقصر في الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة» [رحلة ابن بطوطة ج1 ص95، ط الجزائر]
فهو هنا قد صرّح بأنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية يعظ الناس بالجامع ويمثل لهم صفة النـزول كنـزوله هو من على المنبر، وهذا اتـهام خطير لابن تيمية بتمثيل وتشبيه وتكييف صفة إلهية بصفة بشرية. فهل حقًا ان ابن بطوطة رأى ابن تيمية وصدر منه ما رواه عنه، أم هو أمر افتراه أو حكاه له خصوم ابن تيمية ولم يره بعينيه؟

أقول وبالله التوفيق، ما رواه ابن بطوطة غير صحيح، بناء على الشواهد الآتية:


أولاً: عندما دخل ابن بطوطة مدينة دمشق في التاسع من رمضان سنة 726هـ 
[رحلة ابن بطوطة ج1 ص83، ط الجزائر] كان الشيخ ابن تيمية مسجوناً في قلعة دمشق منذ شعبان سنة 726هـ، ولم يخرج من السجن إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في داخله في العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ [طبقات الحنابلة 405/2، البداية والنهاية 123/14]
فهل يعقل بعد هذا أن يقال: إن ابن بطوطة رأى ابن تيمية وحضر درسه؟! أليس هذا دليلاً دامغاً ينسف الرواية من أساسها؟

ثانيًا: إن مصنفات ابن تيمية شاهدة على بطلان ما ذكره ابن بطوطة، فابن تيمية يسلك مسلك السلف ولا يمل من ترديد العبارات التي ينقلها عن السابقين حيث اتفق أهل السنة والجماعة على الإيمان "بما أخبر الله في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة"
 [مجموعة الرسائل الكبرى ج1 ص400]
وقال ابن تيمية: «فمن قال إن علم الله كعلمي، أو قدرته كقدرتي... أو استواؤه على العرش كاستوائي أو نزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني: فهذا قد شبه الله بخلقه، تعالى الله عما يقولون، وهو ضال خبيث مبطل بل كافر» [مجموع الفتاوى 482/11]
وقال ابن تيمية: «ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا» [مجموع الفتاوى 352/5]
وقال ابن تيمية: «مذهب سلف الأمَّة وأئمَّتها: أنْ يُوصف اللّه بما وصفَ به نفسه، وبما وصفه به رسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. فلا يجوز نفي صفات اللّه تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿الشُّورى:11﴾. ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وقالَ نعيم بن حمَّاد الخزاعيُّ: "مَنْ شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومَنْ جحد ما وصف اللّه به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف اللّه به نفسه ورسوله تشبيهًا". ومذهب السَّلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين: إثبات الصِّفات ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ردٌّ على أهل التَّشبيه والتَّمثيل، وقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ردٌّ على أهل النَّفي والتَّعطيل. فالممثل أعشى، والمعطّل أعمى، الممثّل يعبد صنمًا، والمعطّل يعبد عدمًا» [مجموع الفتاوى 195/5]
وأمثال هذه الأقوال كثيرة جداً في مصنفات ابن تيمية، وهي تدل بالتأكيد على براءته مما رماه به ابن بطوطة. كما أنه من جهة أخرى، لا يصح شرعاً ولا عقلاً، أن نغمض أعيننا عن أقوال الرجل الثابتة عنه، ونقدم عليها رواية غير ثابتة رواها رجل يخالفه في موقفه من مسألة الصفات.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع النزول كتاب مستقل اسمه "شرح حديث النزول" وهو مطبوع ومتداول وليس فيه ما ذكره ابن بطوطة، بل فيه ما يرد عليه ويبطله من أصله والحمد لله رب العالمين.

ثالثًا: حادثة عظيمة أمام الناس، وعلى منبر في مكان مشهور ومن عالم مشهور ومحسود وله أعداء كثر، ويقول ما لا يسع الناس السكوت عنه، ثم ينفرد بنقل هذه الحادثة ابن بطوطة؟!! والحادثة التي رواها ابن بطوطة عن ابن تيمية غير موجودة في كتب التواريخ والتراجم والطبقات المهمة كالبداية والنهاية لابن كثير، والعقود الدرية لمحمد بن عبدالهادي الصالحي، والرد الوافر للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، والأعلام العلية في مناقب ابن تيمية لأبي حفص عمر بن البزار البغدادي، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب البغدادي، وتذكرة الحفاظ للذهبي... أفيُعقل أن يروي ابن بطوطة تلك الرواية الخطيرة عن ابن تيمية ولا ترويها تلك المصادر المهمة؟!

مع العلم أن ابن بطوطة لم يكتب رحلته بقلمه، وإنما أملاها على الكاتب ابن جزي الكلبي، فقال هذا في المقدمة: "ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبدالله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمعاني التي اعتمدها"، فيجوز أن يكون ذلك من تحريف النُّساخ أو وسوسة بعض الخصوم، والله تعالى أعلم!
وصرح الحافظ ابن حجر أن ابن بطوطة لم يكتب تفاصيل رحلته وإنما جمعها منه ابن جزي، وكان البلفيقي يتهمه بالكذب [الدرر الكامنة 480/3]

ويكفي لإبطال القصة ونسفها من أساسها أن يكون الشيخ ابن تيمية قد دخل سجن القلعة قبل وصول ابن بطوطة لدمشق بنحو شهر، ثم لم يخرج من السجن حتى توفاه الله تعالى. وقد قال سفيان الثوري
[الكفاية للخطيب البغدادي ص193]: لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ.

ختامًا، إذا كان هناك من يستجيز الكذب والبهتان لينصر مذهبه أو ليهزم خصمه، فإن كثيراً من العلماء (مع اختلافهم مع خصومهم) لا يبيعون دينهم فيكذبون لنصرته. فهذا الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي الأشعري (ت 1101هـ) يقول في حاشيته المسماة (مجلى المعاني على شرح عقائد الدواني) ما نصه: (ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً في رسالة تكلم فيها على حديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، وقال في رسالة أخرى: "من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان أو أن الله تعالى يماثل شيئاً من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه")