وصية الامام الذهبي لطالب علم

العمل بالعلم



يا وُلَيد رافع ! 
اسمع أقل لك: أراك – والله – مثلي مُزجى البضاعة، قليلَ العلمِ بالصناعة، فلا أقلَّ من الإقبال على الطاعة، ولزومِ خمسك في جماعة.
وهل شيءٌ أقبح من شاب يخدُمُ السنة ولا يعمل بها؟! نعم؛ آخر يبالغ في الطلب، ويكتب عمّن درج ودب، ثم لا يصلي! فلا بارك الله في هذا النمط فإن هؤلاء ما غَوايتُهم بالحديث إلاّ كغواية المصارعِ والسّاعي ولاعب الحَمام، بل أولاء أعذرُ بالجهل.
وهذا المُعَثَّرُ يسمع الألوف من الحديث فيها الوعيد والتهديد والعذاب الشديد ولا ينزجر، بل ما أظنه يسمع شيئًا، ولا يفهم حديثاً؛ لأنه إن كان قارئاً بنفسه فبجَهْدِه أن يتَهَجَّى الأسماء والمتون، ويُبَدلَ ما يشير إليه، وعينُه إلى تنبيه الشيخِ تارة، وإلى أَمْرَدَ حاضرٍ تارة، وإلى إقامة الإعراب تارة؛ لئلا يُخزى بين الحاضرين، وإن كان غيره القارئُ استراح، فأنا كفيلٌ لك بأنه ما يسمع غير: "ثنا قال: ثنا"، وصلّى الله عليه وسلم؛ لكثرة دَوْرِ ذلك.
فتراه إمّا يكتب الأسماء حال السَّماع، فَيَبْطَلُ ويُبطِل، أو ينسخ في جزء، أو يكتب طِباقاً، أو يطالع في شيء، وهذا أجودُ أحواله ولا جودة فيها ! أو بمكانٍ – وهذا الأغلبُ – يحدث جليسه، ويمزح مع الصبيان الملاح، فمتى يسمع هذا أو يعقل أو يبصر أو يُغني عنه الحديث شيئاً؟!

وأما قول وكيع: ((إنّ هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟))؛ فهذا قاله في الصلاة المقارنة للذكر، وهي النوافل؛ أي: يُقللُ تشاغلكم بالنوافل؛ فانتهوا عن ذلك.
أما أن يصدهم عن الفرائض الخمس؛ فحاشا لله هذا ما كان في سِيَرِهم قط؛ إلاّ أيام الجهاد وقبلها بمدة.
وهل يترك الصلاة مُحدِّث إلا وهو من الرُّذالة الزبالة، آوٍ إلى التعثر والضلالة؟
فإن كمّل نفسه بتلوُّطٍ أو قيادة؛ فقد تمت له الإفادة، وإن استعمل من العلوم قسطاً، فقد ازداد مَهانة وخَبْطاً، وبذل دينه لشيطانه وأدبر عن الخير؛ فهل في مثل هذا الضرب خير؟
لا كثَّر الله مثلهم، فما حظُّ الواحد [من هؤلاء] إلا أن يسمع ليروي فقط.
فَلَيُعَاقَبَنَّ بنقيضِ قصده، وليُشَهِّرنَّهُ الله تعالى بعد أن ستره مرات، ولَيَبْقَيَنَّ مُضغةً في الألسن، وعبرةً بين المحدثين، ثم لَيَطْبعَنَّ الله على قلبه، وربما سلب التوحيد، وطمِع فيه الشيطان؛ فدخل في باطنه الخَرابُ، وشكَّكَه في الإسلام والنبوات إلى أن يخسر الدنيا والآخرة؛ نسأل الله العفو والستر.
فبالله يا أخي ثم بالله، اتق الله في نفسك المسكينة، ولا تكن ممن أدخله طلبُ الحديث النار؛ فما ارتفع رافعٌ إلا بالتقوى وملازمة الآداب النبوية.
فإن قبلت نصحي؛ فما أولاك بالخير والتوقير، وإن أعرضت كإعراضك عن وصية الإله العظيم، فتباً لك سائرَ الدهر؛ فإن الله يقول، وهو أصدق من قال وأرحم من أمر وأعلم من أوحى وأكرم من هدى وهو أشفق علينا من أنفسنا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ}.

فبالله قُل لي: هل يكون طالبٌ من خُدام السنة يتهاون بالصلوات، أو يتعانى تلك القاذورات؟ لا والله، ولا هو ممن اتقى الله.
وأنحسُ من ذلك كله محدِّث يكذب في حديثه، ويختلق الفُشارات، فإن ترقت همته المقيتةُ إلى الكذب في النقل والتزويرِ في الطباقِ، فقد استراح وطَرَّسَ الطلبةُ على اسمه ورسمه: صورة ومعنى.
وإن تعانى سرقةَ الأجزاء، أو كشطَ الأوقاف، فهذا لص بسَمْتِ مُحدثٍ. وإن جعل الطلبَ له مأكلة ودكاناً، فالأعمال بالنيات، ولا قوة إلا بالله.
فاقرأ كتابك كفى بنفسك عليك حسيبًا، وأعوذ بالله أن أكون قد ضيعتُ الزمان في نعت بطَلَةِ الطلبة، أبلاهم الله بالغلبة.
فافتح عينك، وأحضرْ ذهنك، وأرعني سمعك. فإن انتفعت وعَقَدْتَ مع الله عقداً، فقد توسمت فيك الخير، وإن شردت وركبتَ الإعراض والكسل مثلي، فواحسرتا عليَّ وعليك.
فثمة طريقٌ قد بقي لا أكتمه عنك، وهو كثرةُ الدعاء، والاستعانة بالله العظيم في آناء الليل والنهار، وكثرةُ الإلحاح على مولاك بكلِّ دعاء مأثور تستحضره أو غير مأثور، وعقيب الخمس، في أن يصلحك ويوفقك.
والزم – ولا بُدِّ – آية الكرسي في دبر الصلوات المفروضة، وأكثر الاستغفار والأذكار، والزم الصدق المفرط عن كل بد في كل شيء، ولا تستكبر ولا تكن ممن يستكبر بما علم، فإنك جاهل خَبل.

فداوم – بالله – [على] التواضع الزائد، والمسكنة للمسلمين إلا الفاسقين منهم، وأحب لله وأبغض في الله، وثق بالله، وتوكل على الله، وأنزل ضرورتك بالله، ولا تستغن إلا بالله، وأكثر من: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ومن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرًا دائمًا أبداً.
 

 وصية الذهبي لمحمد بن رافع السلامي