من اقوال المنصفين في ابن تيمية

ابن تيمية




شهادات الأئمة في عصره وبعد عصره تبين للمنصف كذب الادعاءات التي يفتريها أعداء الملة وأعداء السنَّة على هذا الإمام العلَم، وفي ثنايا هذه التزكيات بيان علم وفقه وقوة حجة هذا الإمام، وبه يُعرف السبب الذي حاربه من أجله أهل الكفر والبدعة، وهو أنه هدم أصولهم فخرَّ عليهم السقف من فوقهم. وسنذكر في بعض هذه الشهادات صحة اعتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية، ونصرته للسنَّة ورده على أهل البدع والخرافات. وهذه التزكيات والشهادات لهذا الإمام لم تكن من تلامذته وأصحابه فحسب، بل حتى بعض مخالفيه شهدوا له بالإمامة والتقدم في العلم والفقه وقوة الحجة، بل وشهدوا له بالشجاعة والسخاء والجهاد في سبيل الله لنصرة الإسلام، وهذه بعض الشهادات والتزكيات:



قال الإمام الذهبي في معجم شيوخه:
هو شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر، علماً ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويراً إلهيّاً وكرماً ونصحاً للأمَّة وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، وخرج ونظر في الرجال والطبقات، وحصَّل ما لم يحصله غيره. برَع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه، بطبع سيَّال، وخاطر إلى مواقع الإِشكال ميَّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفِظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوّاً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده، وأتقن العربيَّة أصولاً وفروعاً وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين وَرَدَّ عليهم وَنبَّه على خطئهم وحذَّر منهم، ونصر السنَّة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأُوذي في ذات اللّه من المخالفين، وأُخيف في نصر السنَّة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً وعلى طاعته. أحيى به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأَب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي...
انظر "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب الحنبلي 390/4


قال الحافظ عماد الدين الواسطي:
والله، ثم والله، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية، علماً وعملاً وحالاً وخلُقاً واتِّباعاً وكرماً وحلْماً وقياماً في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته، أصدق النَّاس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفّاً، وأكملهم اتباعاً لسنَّة محمد صلى الله عليه وسلّم. ما رأينا في عصرنا هذا مَن تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة.
(العقود الدرية ص 311)


قال الحافظ جلال الدين السيوطي:
ابن تيمية، الشيخ، الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، الفقيه، المجتهد، المفسر البارع، شيخ الإسلام، علَم الزهاد، نادرة العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد المفتي شهاب الدين عبدالحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم الحراني. أحد الأعلام، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وسمع ابن أبي اليسر، وابن عبدالدائم، وعدّة. وعني بالحديث، وخرَّج، وانتقى، وبرع في الرجال، وعلل الحديث، وفقهه، وفي علوم الإسلام، وعلم الكلام، وغير ذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد، والأفراد، ألَّف ثلاثمائة مجلدة، وامتحن وأوذي مراراً. مات في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. (طبقات الحفاظ ص 516-517)
وقد نقل جلال الدين السيوطي في الأشباه والنظائر النحوية مبحثاً لشيخ الإسلام في حرف ((لو)) بعد الثناء الجميل عليه.



وقد طعن ابن حجر الهيتمي (من فقهاء الشافعية، توفي 974هـ، وهو شخص آخر غير الحافظ ابن حجر العسقلاني، صاحب فتح الباري، المتوفى 852هـ) في شيخي الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كثيراً، واتهمهما بالقول بالتجسيم والتشبيه وقبائح الاعتقادات، وقد ردَّ عليه كثيرون، وبينوا زيف قوله، وأظهروا براءة الإمامين من كل اعتقاد يخالف الكتاب والسنة، ومن هؤلاء:

الملا علي قاري حيث قال بعد أن ذكر اتهام ابن حجر لهما وطعنه في عقيدتهما:
أقول: صانهما الله – أي : ابن القيم وشيخه ابن تيمية - عن هذه السمة الشنيعة، والنسبة الفظيعة، ومن طالع "شرح منازل السائرين" لنديم الباري الشيخ عبدالله الأنصاري قدس الله سره الجلي، وهو شيخ الإسلام عند الصوفية: تبيَّن له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة، بل ومن أولياء هذه الأمة، ومما ذكر في الشرح المذكور ما نصه على وفق المسطور:
"وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنَّة، ومقداره في العلم، وأنه بريء مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل، على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنَّة بذلك، كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب، والناصبة بأنهم روافض، والمعتزلة بأنهم نوابت حشوية، وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ورمي أصحابه بأنهم صبأة، قد ابتدعوا ديناً محدثاً، وهذا ميراث لأهل الحديث والسنة من نبيهم بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة. وقدس الله روح الشافعي حيث يقول وقد نسب إلى الرفض:
إن كان رفضا حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أني رافضي
ورضي الله عن شيخنا أبي العباس بن تيمية حيث يقول:
إن كان نصباً حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أني ناصبي
وعفا الله عن الثالث – وهو ابن القيم - حيث يقول:
فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته *** وتنزيهها عن كل تأويل مفتر
فإني بحمد الله ربي مجسم *** هلموا شهوداً واملئوا كل محضرِ".
"مرقاة المفاتيح" لملا علي القاري ( 8 / 146 ، 147 )
وما بين علامتي التنصيص " " نقله الملا علي قاري عن الإمام ابن القيم من كتابه "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" ( 2 / 87 ، 88 )





كلام الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحافظ ابن حجر العسقلاني إمام مشهور، توفي عام 852 هـ، وهو صاحب التصانيف النافعة، مثل "فتح الباري شرح صحيح البخاري"  و "التلخيص الحبير"  و "تهذيب التهذيب" وغيرها، وكان للحافظ ابن حجر كلمات متفرقات في شيخ الإسلام ابن تيمية، شهد له بها بالعلم والفضل والدفاع عن السنَّة...

ألَّف الشيخ ابن ناصر الدين الدمشقي كتاباً سماه "الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر" ردّاً على واحد متعصبي الأحناف زعم أنه لا يجوز تسمية ابن تيمية بـ " شيخ الإسلام " ، وأنه من فعل ذلك فقد كفر! وقد ذكر ابن ناصر الدمشقي في رده هذا خمساً وثمانين إماماً من أئمة المسلمين كلهم وصف ابن تيمية بـ "شيخ الإسلام " ، ونقل أقوالهم من كتبهم بذلك، ولما قرأ الحافظ ابن حجر هذا الكتاب (الرد الوافر) كتب عليه تقريظاً، وهذا نصه:
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. وقفتُ على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرَّفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس، وتلقيبه بـ " شيخ الإسلام " في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية، ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، أو تجنب الإنصاف، فما أغلط من تعاطى ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا، وحصائد ألسنتنا بمنِّه وفضله، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا ما نبَّه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في " تاريخه ": أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جدّاً شهدها مئات ألوف، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد أو أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة ذلك الوقت إذا ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية فكان أمير البلد حين مات غائباً، وكان أكثر مَن بالبلد مِن الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس، تأخروا خشية على أنفسهم من العامة.
ومع حضور هذا الجمع العظيم: فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته، لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم شهداء الله في الأرض) - رواه البخاري ومسلم.
ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً، بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة، ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعوة إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا يُنكر على مَن أطلق "أنه كافر"، بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام: الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك؛ فإنه شيخ في الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم، والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه - وهو الأكثر - يستفاد منه، ويترحم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه، بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه، وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني، يشهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين بن الوكيل، الذي لم يثبت لمناظرته غيره.
ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذا سمعوا بكفره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره. فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما يُنكر، فيحذِّر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك، كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف: لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم، فضلاً عن الحنابلة. فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر، أو على من سمَّاه "شيخ الإسلام": لا يلتفت إليه، ولا يعوَّل في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله، ونعم الوكيل.
صفة خطه أدام الله بقاءه.
قاله وكتبه: أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي، عفا الله عنه، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول، عام خمسة وثلاثين وثمانمائة، حامداً لله، ومصليّاً على رسوله محمد وآله ومسلماً.
"الرد الوافر" للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي (ص 145 ، 146) ونقل الحافظ السخاوي – تلميذ ابن حجر – كلام شيخه في كتابه "الجواهر والدرر" ( 2 / 734 – 736 )

ترجم الحافظ ابن حجر لشيخ الإسلام ابن تيمية، عليهما رحمة الله تعالى، ترجمة حفيلة في كتابه "الدرر الكامنة"، قال في أولها:
" .. وتحول به أبوه من حران سنة 67، فسمع من ابن عبدالدائم والقاسم الأربلي والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل، وتفقه وتمهر، وتميز وتقدم، وصنف ودرس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والإطالة على مذاهب السلف والخلف .. "
(الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 168/1)

وقد نقل في هذه الترجمة كثيرا من نصوص الأئمة، في الثناء على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، والإقرار بإمامته في علوم المعقول والمنقول، ومن ذلك قوله:
"وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي، في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل، ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى، شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه أحسن طريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقرت الأمم كافة أن هممها عن حصرها قاصرة، ومتعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوراني، إمام الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، شيخ الإسلام، حجة الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتعلمين، قامع المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن، أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق، علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة، أبو العباس ابن تيمية !!"
الدرر الكامنة (186-187)


إذا كانت هذه النصوص التي نقلناها أو أشرنا إليها، من كلام الحافظ ابن حجر أو مما نقله الحافظ عن غيره، ناطقة بتقدير شيخ الإسلام والإشادة بمنزلته من العلم والدين، فإن ذلك لا يعني أن الحافظ لم يخالف شيخ الإسلام البتة في مسألة من المسائل العلمية أو لم ينتقده قط، فما زال أهل العلم يردون بعضهم على بعض من غير أن يلزم من ذلك أن يكون الراد لا يقدر المردود عليه قدره، فضلا عن أن يبدعه أو يضلله، وقديما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى قولته الشهيرة: " كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر" ، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
وهذا بغض النظر عما إذا كان الصواب مع شيخ الإسلام أو مع مخالفه ومن يرد عليه، الحافظ ابن حجر أو غيره. فكيف إذا كان الصواب في عامة ما أنكروه عليه، أو معظمه في جانب شيخ الإسلام، رحم الله الجميع.


وكان الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي ذابا عن ابن تيمية منافحاً عنه، ذاهباً مذهبه في عقيدة السلف مناصراً لها متأثراً الشيخ في كثير من القضايا.
الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي الأشعري (ت 1101هـ) يقول في حاشيته المسماة (مجلى المعاني على شرح عقائد الدواني) ما نصه: (ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً في رسالة تكلم فيها على حديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، وقال في رسالة أخرى: "من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان أو أن الله تعالى يماثل شيئاً من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه")


وكذلك كان الشيخ ملا علي القاري الحنفي شارح الشقا، والشيخ أبوالمعالي علي بن محمد سعيد السويدي الشافعي مؤلف كتاب ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) والشيخ أبو الثناء شهاب الدين الألوسي الشافعي الحنفي صاحب روح المعاني في التفسير،
وابنه الشيخ نعمان الآلوسي رحمه الله تعالى ألف كتابًا سماه جلاء العينين في محاكمة الاحمدين وهو من أعلام بغداد في القرن التاسع عشر إذ توفي رحمه الله سنة 1899 ميلادية، فهو شاهد على حيوية فكر ابن تيمية الذي شغل الناس منذ كان وإلي أيامنا هذه، فقد اطلع على كلام ابن حجر الهيتمي في مؤلفه الفتاوي الحديثية فوجده ينسب لابن تيمية ما لم يقله، ويتعسف في تفسير بعض ما قاله، ويحيد عن منهج العلماء في النقد وتقليب الرأي، ويصف ابن تيمية بما لا يليق به.


ومع أنّ الـسُّـبْكي قد تنّقص من شيخ الإسلام ابن تيمية، إلا أنّه لم يجد بُداً من الاعتراف بالفضل والعلم لابن تيمية؛ حين كتب الإمام الذهبي إلى الـسُّـبْكي معاتباً له بسبب ما وقع منه في حق شيخ الإسلام ابن تيمية.
فأجاب الـسُّـبْكي الذهبيَّ ومن جُملة جوابه، قال: «وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحققُ كبيرَ قدرهِ، وزخارةَ بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبُلوغه في كلٍّ من ذلك المبلغَ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع، والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سَنَن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل فيما مضى من أزمان»
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/186)، وانظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/392)، الردُّ الوافر على من زعم بأنّ ابن تيمية شيخ الإسلام كافر لابن ناصر الدين الدمشقي (ص52)، شذرات الذهب (6 /83)

ومما يدّل على مكانة شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ عبدالوهاب الـسُّـبْكي (وهو ممن تابع والده في العداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية) كتب في ترجمة أبيه تقي الدين الـسُّـبْكي وثناء الأئمة عليه، بأن الحافظ المزّي لم يكتب بخطه لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه وللشيخ تقي الدين ابن تيمية وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر. 
طبقات الشافعية الكبرى (10/195)
فلولا أن ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل، لم يقرن الـسُّـبْكي أباه معه في هذه المنقبة التي نقلها، ولو كان ابن تيمية مبتدعاً أو زنديقاً ما رضي أن يكون أبوه قريناً له.


قال أحمد بن الصديق الغُماري (الأشعري):
«وما ردّ به التقي الـسُّـبْكي على ابن تيمية في هذه المسألة، لم أستفد منه شيئاً ما، لماّ قرأته منذ عشرين سنة إلاّ معرفةَ أنّ التقي الـسُّـبْكي فضلاً عن ابنه التاج خلاف ما كنّا نَظنُ به وخلاف ما يهوّل به ابنه عنه، فإنّي كتبت في تلك الساعة بآخر الرد كتابة مَضْمنُها: إن بين الـسُّـبْكي وابن تيمية بوناً كبيراً في العلم وقوة الاستدلال وأن الثاني أعلم بمراحل»
(درُّ الغَمام الرقيق ص227)