طرابلس مدينة العلم والعلماء

طرابلس مدينة العلم والعلماء



طرابلس الفيحاء.. مدينة العلم والعلماء

طرابلس هي مدينة لبنانية تعتبر مركز محافظة الشمال، وتكنى بالفيحاء، أطلقوا عليها اسم ((طرابلس الشام)) لتمييزها عن طرابلس الغرب في ليبيا. عرفت طرابلس منذ القدم بموقعها الجغرافي المميز على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، مما جعلها مركزاً تجارياً مهماً على مستوى المنطقة، بالإضافة إلى أن المدينة تضم عدداً كبيراً من الآثار والمعالم التاريخية.
في العام 688هـ (1289م)، تم تحرير طرابلس من الصليبيين وفُتحت المدينة على يد المنصور قلاوون (سلطان مصر والشام) الذي أعطى أوامره بهدم المدينة القديمة، والتي كانت تقع في الميناء، وبنائها من جديد في السهل المنبسط تحت قلعة طرابلس. اتخذ سلاطين المماليك طرابلس عاصمة لنيابة السلطنة خلال فترة حكمهم، ثم دخلت طرابلس تحت الخلافة العثمانية حين انتصر الأتراك على المماليك في مرج دابق سنة 922هـ (1516م).
اشتهرت طرابلس بالعديد من الألقاب، منها ((مدينة العلم والعلماء))، وهنا ذكر لبعض الأمور التي تشهد باستحاق طرابلس لهذا اللقب في مختلف الحقبات الزمنية:

في عهد حكم بني عمار (462 - 502هـ / 1070- 1109م):
انفردت مدينة طرابلس، دون غيرها من بلاد الشام، بقيام مكتبة كبرى فيها عُرفت بـ"دار العلم"، التي اعتبرت أروع مكتبة في العالم، وكان فيها آلاف الكتب وقيل: بلغت ثلاثة ملايين كتاب. ولم تكن مجرد مكتبة بل أصبحت دار علم، بمعنى أن من يريد أن يتعلم يأتي إلى هذه المكتبة، وقد أحرقها الصليبيون عقب احتلالهم لمدينة طرابلس. وذكر المؤرخ ستيفن رنسيمان ما حصل من بعض الصليبيين فقال: ((وأثناء النهب والشغب أحرقوا مكتبة بني عمار العظيمة عن آخرها وهلكت كل محتوياتها، وكانت أروع مكتبة في العالم الإسلامي)).(1) وقال مسند العصر عبدالحي الكتاني الإدريسي الحسني في كتابه «تاريخ المكتبات الإسلامية»: ((قال ابن أبي طي: قال أبي: وكانت هذه دار العلم من عجائب الدنيا، وكان بنو عمار قد عنوا بها العناية العظيمة... ولما دخل الإفرنج إلى طرابلس أحرقوا دار العلم، وكان السبب في ذلك أن بعض القسس لما رأى تلك الكتب هالته، واتفق أنه وقع في خزانة المصاحف الكرام فمد يده إلى مجلد فإذا هو مصحف، ثم إلى آخر فرآه كذلك، ثم إلى آخر فوجده مصحفاً حتى عد عشرين مصحفاً، ثم قال: كل ما في هذه الدار فهو قرآن المسلمين ! فلذلك أحرقوها، وتخطف الإفرنج أشياء من الكتب، وهي التي خرجت إلى بلاد غير المسلمين)).(2)

في عهد الصليبيين (503 - 688هـ / 1109 - 1289م):
يقول د. عبدالعزيز سالم: ((احتفظت طرابلس الصليبية بشهرتها العلمية التي وصلت إليها في عهد بني عمار، فقد كانت في عصر الصليبيين مركزاً علمياً متفوقاً، يفد إليه طلاب العلم من أوربا لأخذه على علمائها المسلمين والنصارى البلديِّين. وذاعت شهرتها في علوم الطبِّ والكيمياء والصيدلة والرياضيات والعلوم الطبيعية والفلسفة والفلك، ففي مجال الطب كانت مدرسة طرابلس أعظم مدارس الطبِّ في الإمارات الصليبية على الإطلاق)).(3)

في حكم المماليك ثم العثمانيين (688 -  1336هـ / 1289 - 1918م):
ازدهرت الحركة العلمية في العصور الإسلامية، وكثر بناء المساجد والمدارس. والمدارس كانت دور منظمة يأوي إليها طلاب العلم من أجل الدراسة، ويتولى التدريس لهم فيها فئة من المدرسين والعلماء، كما يتم الإنفاق عليهم وتأمين حاجتهم. وبلغ عدد المدارس في طرابلس عدداً كبيراً، وقيل انها كانت 360 مدرسة، حتى قالوا أن ما بين مدرسة ومدرسة كان يوجد مدرسة ! ولو نظرنا اليوم الى المسجد المنصوري الكبير لوجدنا عند مدخله الرئيسي المدرسة الشمسية ومدرسة المشهد، ويقابلهما المدرسة الناصرية ومدرسة الخيرية حسن، وقريب منهما المدرسة النورية في أول سوق الصاغة، كما تقع المدرسة القرطاوية عند الجدار الشرقي للمسجد المنصوري الكبير.
((وانتشار المدارس في محلة النوري، المحيطة بالجامع المنصوري الكبير، تبين لنا أن هذه المحلة من المدينة القديمة كانت تشهد النشاط العلمي، ولهذا عرفت طرابلس باسم مدينة العلم والعلماء)).(4)
ويذكر د. عمر تدمري: ((كانت مساجد طرابلس ومدارسها، كغيرها من المدن الاسلامية، تتخذ كمعاهد لتلقي العلوم الدينية من فقه وتفسير وحديث وتعليم القرآن الكريم وغيرها من العلوم الملتزمة بها، ومن المحتمل أن توضع في المساجد خزائن للكتب إلى جانب المصاحف والتفاسير، ومن المرجح أن المدارس كانت تحتفظ بالمكتبات)).(5)

تنوع مدارس طرابلس في العصر الاسلامي
لم تكن المدارس متماثلة في الحجم والتميز المعماري، بل اختلفت بعضها عن بعض، فتميزت المدرسة القرطاوية مثلاً بأنها أكبر وأجمل مدارس طرابلس المملوكية، وتميزت المدرسة النورية بمحرابها الرائع. ويقول د. عمر تدمري: ((أما مدارس طرابلس فتختلف في الشكل الهندسي بعضها عن بعض وتتفاوت مساحاتها، وتتميز الواحدة عن الأخرى بمعالم واضحة، ومنها ما ينطبق عليها اسم مدرسة، ومنها ما اطلق عليه اسم مسجد (كالبرطاسي والحجيجية وغيرها)، ومنها ما عرف بالمدرسة مجازًا)).(6)

واقع المدارس الاسلامية الأثرية في التاريخ القريب
قام الأديب المصري محمد القاياتي برحلة إلى طرابلس في بداية القرن الرابع عشر الهجري (1883م)، ومما قاله عن طرابلس: ((مدارس طرابلس، بالنسبة لغيرها من باقي مدن الشام ما عدا دمشق، معمورة مأهولة بأهل العلم، فترى غالبهم مختصًا بمدرسة لجلوسه وقراءته وتعليمه واجتماعه على إخوانه وأخدانه، زيادة على اشتراكه مع أهل العلم في الجامع الكبير)).(7)
وقال الدكتور عمر تدمري في كتاب طبِع سنة 1974م: ((وحتى نصف قرن تقريبًا كانت معظم مدارس طرابلس القائمة تؤدي دورها الديني والثقافي على يد الكتَّاب الذي يتحلق حوله أبناء الحي، فيبدؤون معه أول خطوة على طريق الحرف والكلمة. وكانت المدينة عامرة بالعلماء والطلبة)).(8)

واقع المدارس الاسلامية الأثرية اليوم
المدارس التي بُنِيَت في مدينة طرابلس منها ما يعود لعصر المماليك، ومنها ما يعود الى العصر العثماني. أما اليوم، فهذه المدارس منها ما شارف على الاندثار، ومنها ما تهدم أو أزيل، ومنها مدارس مهجورة، ومنها ما تحول إلى مصلى أو مسجد. ومن أبرز المدارس التي ما زالت موجودة حتى عصرنا: المدرسة القرطاوية، المدرسة النورية، المدرسة السقرقية ويقابلها المدرسة الخاتونية، مدرسة الخيرية حسن (تحولت إلى وقف لإكرام الموتى)، المدرسة الناصرية (كانت مكتبة الجامع المنصوري الكبير ثم تحولت إلى مستودع بعد نقل الكتب إلى قصر نوفل)، المدرسة الأفغانية (كانت مدرسة عثمانية ثم تحولت إلى مسجد الأفغاني)، مدرسة الطواشية (مسجد الطويشية)، والحجيجية والبرطاسي...

كيف كان يتم تأمين نفقات المدرسة؟
لعبت الأوقاف دورًا هامًا في التعليم، سواء في المدارس أو المكاتب، فالأوقاف هي التي ثبتت أركان المدرسة ودعمت نظامها ومكنتها من القيام برسالتها، وكان الريع الذي تغله المصادر الموقوفة على المدرسة شهريًا أو سنويًا، نقدًا أو عينًا، هو الضمان لاستمرار العمل بالمدرسة حيث تدفع منه مرتبات أرباب الوظائف بالمدرسة والطلبة حسب شروط الواقف.(9)
وهكذا جرت العادة في ذلك العصر بأن ينشىء السلطان أو الأمير المدرسة أو المكتب ويقف على ذلك الأوقاف الواسعة من أراضي ودور وغيرها، لينفق من ريعها على مرافق المدرسة أو المكتب وعلى موظفيها من المدرسين والشيوخ، فضلاً عن طلبة المدرسة... أما بالنسبة للطلبة فلم يكن التعليم في ذلك العصر مجانيًا فحسب، بل كفل لهم أيضًا المسكن والكساء، فضلاً عما تقرر لهم من مقررات نقدية وعينية.(10)

هكذا كانت طرابلس الفيحاء عبر التاريخ... فكيف أصبحت اليوم؟


للمزيد عن مدينة طرابلس: 33shamy.blogspot.com/search/label/Tripoli


المصادر والمراجع:
(1) تاريخ الحملات الصليبية لرنسيمان، ج2 ص99 / الطبعة الثانية للهيئة المصرية العامة للكتاب
(2) تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألف في الكتب ص37 / طبعة المكتبة الحسنية
(3) طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي ص232 / مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر
(4) رحلة الدارس في تاريخ طرابلس ص28 / اعداد د. خالد زيادة
(5) تاريخ وآثار مساجد ومدارس طرابلس في عصر المماليك ص7 / الطبعة الأولى لدار البلاد
(6) تاريخ وآثار مساجد ومدارس طرابلس في عصر المماليك ص50 / الطبعة الأولى لدار البلاد
(7) نفحة البشام في رحلة الشام للقاياتي ص76 / دار الرائد العربي
(8) تاريخ وآثار مساجد ومدارس طرابلس في عصر المماليك ص54 / الطبعة الأولى لدار البلاد
(9) الأوقاف الإسلامية في فلسطين في العصر المملوكي ص23 / اعداد محمد عثمان الخطيب
(10) المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص164 / طبعة دار النهضة العربية

تعليقات

تابعونا على